غزوان قرنفل
مع كل تحول تمر به الشعوب، لا بد أن يخرج من بين صفوفها من يحسبون أنفسهم على الثورة أو التغيير الجديد، لكنهم في حقيقة الأمر لا يجيدون إلا إعادة إنتاج الخطاب والمبررات والبنى القديمة نفسها التي ثاروا عليها، وهكذا هم “الشبيحة الجدد”، المطبلون للسلطة الانتقالية في سوريا، الذين باتوا يمثلون أزمة أخلاقية عميقة، لا تقل خطورة عن تلك التي جسدها “شبيحة” النظام الأسدي على مدى عقود.
“الشبيحة الجدد”، ورغم خلفياتهم التي غالبًا ما تنتمي إلى الوسط الإعلامي أو الثقافي، وعلى الرغم من معرفتهم التفصيلية، أو على الأقل الجزئية، بالانتهاكات التي ارتكبتها تشكيلات السلطة الانتقالية العسكرية والأمنية ضد سوريين من مكونات مختلفة، فإنهم لا يتوانون عن إنكار هذه الجرائم أو التلاعب بتوصيفها، حتى تصل هذه السيكولوجيا إلى حد يجعلهم يستخدمون أدوات التشكيك، والكذب العلني، أو حتى التبرير السخيف للفظائع التي لا يمكن الدفاع عنها.
والمفارقة المحزنة، أن كثيرًا منهم يدركون تمامًا أن ما حدث هو أفعال جرمية ممنهجة (تعذيب، اعتقال تعسفي، قتل خارج القانون، تصفيات ميدانية، وانتهاك للكرامة الإنسانية)، وكل ذلك تم باسم “الثورة” أو “الحفاظ على مكتسبات التغيير”، ومع ذلك، فإنهم يختارون، بوعي أو من دونه، أن يكونوا في صف السلطة يكررون خطابها التبريري، أو يتبرعون بإيجاد تبريرات تبدو في معظمها تافهة وسطحية، أو تنتمي إلى خطاب تلفيقي عرفه السوريون لعقود في إعلام سلطة العصابة الأسدية.
لكن لمَ يفعل هؤلاء ذلك؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تقع في صلب سيكولوجيا “الشبيح الجديد”، الذي لم يتحرر من عقدة الرغبة الجامحة لامتلاك القوة وإخضاع الآخرين لها، حتى لو ارتكبت هذه القوة الفظائع، إنه في لا وعيه يريد أن يكون المنتصر بعد أن كان الضحية، لكنه لا يريد أن يصدم بانهيار الصورة المثالية التي رسمها للثورة، أو لما يعتقد أنه “تحرير”. بالنسبة له، الاعتراف بالانتهاك هو طعنة في قلب السردية التي اعتنقها عن طهرانية “ثورته”، وقدسية “الشهداء”، ونبل “التحرير”، حتى لو تحول هذا “التحرير” إلى مجرد نسخة أخرى من السيطرة الأمنية والاستبداد، لكن بأدوات مختلفة، وشعارات دينية هذه المرة.
يخشى هؤلاء من أن يؤدي الاعتراف بالجرائم إلى تساقط صورة “الوطني الضحية”، أو “الثائر النبيل”، الذي دفع ثمنًا من روحه ودمه وأهله من أجل كرامة المجتمع، لكن ما لا يريدون رؤيته، أن تلك الكرامة يعاد دفنها مجددًا تحت ركام الانتهاكات، وأن ما جنوه هو سلطة جديدة إقصائية مستأثرة، تعيد إنتاج منظومة الدولة الأمنية، ولكن برموز وأدوات جديدة تتصدرها فئة واحدة مستأثرة، داست على، وتاجرت في، معاناة السوريين والأثمان التي دفعوها ليحققوا التغيير.
إنها أزمة أخلاقية بامتياز، حين يصبح إنكار الجريمة والتعامي عن بناء منظومة سلطوية جديدة هو الموقف الأخلاقي في نظرهم، وحين يتحول الدفاع عن الباطل إلى شكل من أشكال “الواقعية السياسية”، لكنها ومع الأسف هي تمامًا اللحظة التي يختار فيها المرء الكذب على نفسه ومجتمعه على أن يواجه الحقيقة، التي تؤشر تمامًا إلى أن المسار انحرف كليًا، وأن الثورة صودرت، وأن أدوات العنف صارت تستخدم باسم “الدين” وتكريس سلطة “المنظومة الحاكمة”، تمامًا كما كانت تُستخدم باسم “الوطن” و”القائد”.
وبدلًا من أن يستمر هؤلاء في النضال لتصويب المسار، أو فضح ما يجري من انحرافات رغم وجود مناخ لا يزال يتاح فيه للناس حق الكلام حتى الآن على الأقل، فإنهم اختاروا التكيف مع الواقع الجديد، وتقديم الولاء غير المشروط للسلطة الصاعدة، لا فرق عندهم إن كانت هذه السلطة تلبس بدلة عسكرية، أو تطيل لحيتها وتدّعي الورع، فالثابت الوحيد في ذهنية هؤلاء هو أنه طالما أن السلطة آلت إلى “السنّة” فهي على حق بالضرورة في كل ما تقوله وما تفعله.
هؤلاء ليسوا إلا نسخة مشوهة من “الشبيحة القدامى”، وهم لا يختلفون كثيرًا عن أولئك الذين كانوا يرقصون في شوارع دمشق وهم يحملون صور طاغيتهم الفارّ، كلاهما ينكر الجريمة أو يجد لها مسوغًا وطنيًا، وكلاهما يشيطن ضحاياه، وكلاهما يعمل على تشويه الحقيقة وتزييف الوعي العام، الفرق الوحيد أن هؤلاء المستجدون يحملون لغة “الثورة” ويستعيرون رموزها، لكنهم يدوسون على مبادئها عند أول مفترق، وهو ما هيأ البيئة المناسبة لخلق طبقة من “المطبلين” ممن يصوغون خطابًا إعلاميًا لا هدف له إلا تلميع صورة السلطة الجديدة، وشيطنة كل من يطالب بالعدالة والمحاسبة وبالشفافية وبالشراكة الوطنية.
لا يتوهمن أحد أنه يمكن لأي مشروع تحرري أن ينجو إذا اكتفى باستبدال طاغية بآخر، أو سلطة أمنية بأخرى، و ما لم يواجه السوريون الحقيقة عارية كما هي، ويعترفوا أن ما وصلنا إليه هو شيء مغاير لما كنا نسعى إليه، ويملكوا اعتقادًا راسخًا بإمكانية تصويب الأمور والمسارات من خلال العمل الدؤوب الذي يحول دون أن ترسخ هذه السلطة دعائم استبداد جديد تبدو متلهفة لبنائه، واليقين بأن هذا الوطن ليس “للسنّة” وحدهم، بل لجميع السوريين على السواء، وأن القانون قيمة عليا حري بالجميع حاكمين ومحكومين الامتثال له والخضوع لمقتضياته، عندها أعتقد أننا نكون قد وضعنا أقدامنا على العتبات الأولى لسوريا التي ينبغي أن تكون.
مرتبط


