وداع عند باب الزنزانة.. قصة الشهيد جودت عز الدين الذي حفظ رقم أهلي وقضى تحت التعذيب
زمان الوصل -
من بين الجدران العالية والزنازين المظلمة، حيث يُنسى الإنسان ويُسحق، تبرز قصص تثبت أن الإنسانية يمكن أن تتوهج حتى في أحلك الأماكن. هذه شهادة من نجا ليروي قصة رجل لم ينكسر، وقضى شهيداً تحت التعذيب، ليصبح رمزاً للكرامة والصمود. 
كنتُ الأسير رقم "517" في فرع المخابرات الجوية بمطار المزة عام 2018. جئتُ إلى ذلك الفرع بسبب تقرير كيدي. أُلقيْتُ في زنزانة ضيقة، قضيتُ فيها 94 يوماً، كنا فيها 31 شخصاً. 
في أحد الأيام، أُدخِل إلى زنزانتنا رجل كبير في السن، كان طيفاً جداً. بدأنا نسأله: "لماذا جاؤوا بك؟ ومن أين أنت يا عم؟". مع مرور الوقت، جلس بجانبي وحدثني عن نفسه. قال لي: "أنا أبو عبد الله، جودت عز الدين". تعرفنا عليه، وبعد أربعة أيام من توقيفه، طلبوه للتحقيق. أخذوه صباحاً وعاد قرابة العصر. 
قضيتُ أياماً مع العم أبو عبد الله، وكان كل يوم يحكي لي شيئاً عن نفسه. في ذلك الوقت، كنا نحاول أن نمضي الوقت لنسلي قلوبنا. أكثر كلمة تقهرني كان يقولها: "ولك أنت طالع، رح تروح تشوف أهلك، أما أنا فلا، أنا ما لي طالع". وأخذت عليه المواثيق أنه إذا خرج أن يخبر أهلي ويطمئنهم عني، حتى أنه حفظ رقم أهلي لهذه الغاية. 
كان يحدثني عن ابنه الوحيد، وعن أحفاده الذين يدرسون، وعن عمله. كان يقول لي: "إذا طلعنا رح نشتغل سوا". وكنا كل يوم ننتظر الفرج. 
يوم النهاية:
جاء اليوم الذي طلبوا فيه أبا عبد الله للتحقيق.جاء السجان يحمل جنزيراً وكلبشات لليدين وطماشة للعيون. قال لنا: "جهزوه، جهزوه"، وودعناه. وكنا معتادين أن كل من يخرج من الزنزانة نقرأ الفاتحة لتيسير أمره. 
أخذوه ورجع بعد وقت طويل، كان بشدة. حاولت أن أواسيه، فركلت رجليه فكانتا سوداوين من كثرة الضرب والتعذيب. في اليوم الثاني، استيقظنا فوجدنا أبا عبد الله يتقيأ دماً. استمر الوضع خمسة أيام، كل يوم دم واستفراغ. 
الوداع الأخير:
في آخر يوم مع أبي عبد الله،كان صعباً علينا جميعاً. قرابة الظهر، جاء السجانون وطلبوا أن نخرج للاستحمام. قلت له: "بدي أحممك"، فقال: "مافي داعي، ما بدي". أجبرته أنا وأحد الشباب، فاستحممنا ورجعنا. 
بعد ساعات، رجعوا وطلبوا أن نخرج للحمام. نظرت إليه أولاً وقلت: "يلا عمي، قوم على الحمام"، فقال: "مافي داعي، ما بدي أطلع". أصررت عليه وأجبرته أنا وشاب آخر، وساعدناه للخروج. وعندما وصل إلى باب الزنزانة، سقط... توفي أبو عبد الله.
زمان الوصل


إقرأ المزيد