تظاهرات الساحل اختبار آخر لسوريا الجديدة
عنب بلدي -

شهدت مناطق في الساحل السوري، في 25 من تشرين الثاني، تظاهرات من أبناء الطائفة العلوية دعا إليها الشيخ غزال غزال، مفتي منطقة اللاذقية السابق، ورئيس المجلس الإسلامي العلوي الذي أُسس في بدايات عام 2025 بعد سقوط النظام البائد.

وقد رفع المتظاهرون شعارات تطالب بالإفراج عن المعتقلين، وإعادة الموظفين والعسكريين المفصولين إلى وظائفهم، ووقف حالات الخطف أو القتل. وهي مطالب يمكن وصف جزء منها بأنها مطالب محقة، وتعكس شعورًا متزايدًا لدى شريحة واسعة من أبناء الطائفة بأن الواقع الذي يعيشونه اليوم وصل إلى درجة صعبة، سواء على مستوى الأمان الشخصي أو شروط المعيشة أو حضور الدولة بوصفها مرجعية قانونية.

لكن هذه التظاهرات لا يمكن فصلها عن السياق الأوسع الذي تعيشه سوريا منذ سقوط النظام البائد؛ فالمشهد السوري، على الرغم من دخوله مرحلة ما بعد النظام، لا يزال يعيش إرثًا ثقيلًا من الانقسامات المجتمعية، ومن الجراح المفتوحة التي طالت كل أطرافه. لذلك، تبدو أي حركة احتجاجية، وإن بدت مطالبها محدودة أو غير ذات أهمية لجزء كبير من السوريين، بمنزلة اختبار سياسي وأمني واجتماعي لسوريا: أبدأت فعلًا دخول مرحلة جديدة، أم إنها ما تزال تتحرك فوق الأرض نفسها التي فُجّرت بها النزاعات والمظالم المتراكمة خلال السنوات الماضية.

يمكن قراءة مطالب المتظاهرين في الساحل من زاويتين متداخلتين: الأولى اجتماعية اقتصادية؛ الثانية سياسية.

على المستوى الاجتماعي، يعيش جزء كبير من أبناء الطائفة العلوية حالة انهيار اقتصادي وفقر شديد؛ فالمناطق الساحلية التي اعتمدت عقودًا من الزمن على الوظائف الحكومية والمؤسسات الأمنية والعسكرية لم تُطوّر لنفسها قاعدة اقتصادية حقيقية، بسبب سياسات النظام البائد الذي أبقى هذه المناطق في حالة اعتماد شبه كامل على الدولة، بهدف ضمان استمرار ولائها له. وقد حرمت هذه السياسة المجتمعَ المحلي هناك من تكوين المهارات ووجود فرص عمل، وجعلت سقوط النظام يترك فراغًا اقتصاديًا كبيرًا لا يمكن ملؤه بسهولة.

أما على المستوى السياسي، فإن جزءًا واسعًا من أبناء الطائفة العلوية يمر بمرحلة إعادة تعريف موقعه أمام الدولة الجديدة، بعد أن كان سنوات طويلة يُستخدم بوصفه أداة لحماية النظام، أو بتعبير أدق لحماية عائلة الأسد، ولمّا يستطع أن يدرك أن بات خارج ما كان يظنها دولة. ومع سقوط نظام الأسد، دخلت الطائفة في حالة اضطراب داخلي؛ فمن ناحية تشعر بعبء الجرائم التي ارتكبها النظام باسمها، ومن ناحية أخرى تخشى انتقامًا جماعيًا أو إقصاءً سياسيًا، وبين هذين الهاجسين خرجت التظاهرات.

لكن قراءة هذا المشهد لا تكتمل من دون النظر إلى ردة فعل كثير من السوريين الذين استقبلوا هذه التظاهرات بالشك بأحقية مطالبها؛ فالسوريون الذين عانوا القصف والاعتقال والحصار والتهجير، وقُتّل أبناؤهم على يد الأجهزة الأمنية التي استندت في معظمها إلى عناصر من الطائفة العلوية، يجدون صعوبة في تقبّل خطاب المظلومية الذي يقدمه المحتجون. ليس لأن مطالبهم غير محقة، بل لأن الذاكرة الجمعية السورية لا تزال مثقلة بآلام لا يمكن تجاوزها بسهولة؛ فقد ترك النظام البائد جروحًا اجتماعية عميقة، فهناك مدن قد دُمّرت بالكامل، وهناك عائلات اختفى أفرادها في المعتقلات، وهناك مجتمعات هُجّرت وصودرت مقدراتها. لكن في مقابل ذلك، خسر العلويون آلافًا من شبابهم الذين زُجّوا في حرب لم تكن حربهم، حتى باتت بعض قراهم شبه خالية من الشباب. هذا الواقع المأساوي خلق فجوة نفسية واجتماعية لا يمكن ردمها إلا عبر عملية مصارحة وطنية تُبنى على قانون عادل وشفاف، لا على منطق الغلبة أو الانتقام.

ما يزيد حساسية الموقف أن محاولة الانقلاب التي قادها ضباط وعناصر من بقايا النظام في الساحل في آذار/ مارس 2025، والتي راح ضحيتها مئات من عناصر الأمن العام، تركت في الذاكرة السورية جرحًا إضافيًا. فقد كان الهدف من تلك المحاولة خلط الأوراق وجرّ الحكومة الجديدة إلى مواجهة دامية مع المدنيين، وإظهارها بمظهر الطرف الذي يستهدف منطقة بعينها بدافع الانتقام. وعلى الرغم من أن الدولة تعاملت لاحقًا مع الوضع بمسؤولية وفتحت تحقيقات وشرعت في محاسبة المتورطين، فإن الردود الشعبية الأولى كانت غاضبة وغير منضبطة، وسقط بسببها ضحايا أبرياء، ما جعل الجروح أكثر تعقيدًا، والمشهد أكثر هشاشة مما يُظن.

وقد تعاملت الحكومة السورية الجديدة مع التظاهرات بحكمة وهدوء، إذ لم تُسجّل أي اعتداءات على المتظاهرين، وتولت قوات الأمن حمايتهم، فيما أكد مسؤولون أن حق التظاهر مكفول، وأن الدولة تقف على مسافة واحدة من جميع السوريين. هذه المقاربة، التي تختلف جذريًا عن ممارسات النظام البائد، تمثل خطوة مهمة في تأسيس علاقة جديدة بين الدولة والمجتمع، ولكن السؤال الأهم: هل يكفي ذلك؟ فبناء الدولة بعد عقود طويلة من الاستبداد يحتاج إلى ما هو أكبر من حماية التظاهرات، ويحتاج أيضًا إلى تفكيك البنى الطائفية التي أسس لها النظام البائد، ويحتاج إلى إدارة عادلة لملفات الشرطة والجيش والمفصولين والمعتقلين، كما يحتاج إلى خلق اقتصاد قادر على استيعاب مئات الآلاف من الشباب من كل المناطق والطوائف.

بوصفي واحدًا من أبناء الطائفة السنيّة، أقول إن مسؤولية الأكثرية في هذه المرحلة أكبر من مما هي عليه الآن، فبعد سنوات طويلة من الحرب والإقصاء والدماء هناك مسؤولية أكبر يجب أن يتصدر لها السوريون الذين وصولوا إلى مناصب في الدولة الجديدة على اختلاف مواقعهم، تتمثل في قيادة مشروع وطني جامع؛ فالثورة التي اندلعت من أجل الحرية والعدالة والدولة المدنية لا يمكن أن تتحول إلى مشروع إقصاء. وفي سوريا الجديدة، لا بد للأكثرية من أن تتحلى بقدر أعلى من الصبر والحكمة، لأنها الآن الطرف الذي يخشى منه الآخرون، ولأنها الطرف الأقدر، من حيث العدد والتأثير، على بناء صورة الدولة القادمة. لذلك، فإن التعامل مع مطالب المحتجين في الساحل يجب أن يكون عبر تشكيل لجان قانونية مستقلة تفرّق بين المذنب والبريء، بعيدًا عن أي مقاربة طائفية أو أيديولوجية، فمن ثبت تورطه في الجرائم فمكانه القضاء، ومن لم يثبت عليه شيء فمن حقه العودة إلى عمله الذين كان مصدر رزقه الوحيد.

هذه المقاربة قد تكون مثالية وقد يصعب تطبيقها؛ فليس من السهل على من تشرد أو هُجّر أو اعتُقل أو شاهد كل ما حل بالشعب السوري أن ينسى ما حدث، لكن الجهاد ليس في صد الصائل فحسب، بل الجهاد الأكبر في تطبيق قول الله في القرآن الكريم “ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى”، وقوله “كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين”، وقوله “من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا”، وقوله “ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين”، وقوله، “ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى”، وقوله “والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين”.

إن هذه المقاربة ضرورية لمنع أي توظيف خارجي يريد إعادة إشعال الفتنة الطائفية في البلاد. فهناك أطراف لا تريد لسورية أن تنهض دولة موحدة، وتبذل جهدًا كبيرًا لإبقاء المجتمع السوري في حالة قلق ونزاع دائم، ما يمنع قيام عقد وطني شامل، أو دولة وطنية قوية ومتماسكة. ولن تحقق سوريا ذلك أو تصل إلى الاستقرار إلا إذا تحاور أبناؤها وتصارحوا واعترف المخطئ بأخطائه وسوء خياراته. ولن تُغلق النوافذ أو الأبواب أمام التدخل الخارجي إلا بتماسك قوي ومتين للجبهة الداخلية، وبسيادة حقيقة للقانون يشعر كل مواطن بأنها فوق الجميع. وعندما يجد السوريون من كل المكونات بأن صوتهم مسموع، وأنهم شركاء في إدارة الدولة لا رعايا فيها، يمكن إغلاق الثغرات التي تسعى إليها القوى الخارجية لتمزيق البلاد.

أخيرًا، فإن التظاهرات الأخيرة في مناطق العلويين ليست مجرد حدث احتجاجي محدود، بل مؤشر على مرحلة سياسية جديدة تبحث فيها كل الأطراف عن مكانها في سوريا ما بعد النظام. وهي أيضًا اختبار لمدى قدرة السوريين حكومة وشعبًا على تجاوز رواسب الماضي وبناء دولة لا يكون فيها الانتماء الطائفي وثيقة تزكية، بل يكون المواطن فيها قيمة عليا تُحترم حقوقه ويُحاسب لوحده على أفعاله، مصداقًا لقوله تعالى “ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وزر أخرى”.

مرتبط

اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا

إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى



إقرأ المزيد