“الصحة”.. خطط “تعافٍ تدريجي” بنتائج محدودة
عنب بلدي -

عنب بلدي – مارينا مرهج

على امتداد عام كامل منذ كانون الأول 2024، لم يخرج القطاع الصحي في سوريا من حالة “الإنعاش الطويل”، مع استمرار الانهيار في البنية الطبية، وبكفاءة المستشفيات العامة، وتوفر الدواء، وسط ارتفاع غير مسبوق في تكاليف العلاج، وتراجع عدد الكوادر الطبية في مختلف المحافظات.

وتطورت الأزمة الصحية في سوريا من حالة طوارئ في مناطق محددة إلى وضع وطني، خاصة بعد عودة مئات آلاف السوريين من دول الجوار، إلى جانب موجات نزوح داخلية عكسية من المخيمات نحو المدن والبلدات، هذه العودة رفعت الطلب على الخدمات الصحية الأولية والثانوية بشكل مفاجئ.

ورغم إعلان وزارة الصحة عن خطط “تعافٍ تدريجي”، واتخاذ جملة قرارات ووعود بإعادة تأهيل الأقسام الحيوية، وتحسين التوريد الدوائي، وزيادة خطوط الدعم للمستشفيات، فإن النتائج بقيت محدودة، وسط تراجع التمويل الدولي، وانهيار البنى اللوجستية، واستمرار موجات الهجرة الطبية.

في هذه البانوراما، تحاول عنب بلدي تفكيك عام من أداء القطاع الصحي: ما الذي تحسن؟ ما الذي تراجع؟ وكيف يواجه السوريون “صحة ما بعد الانهيار”؟

أرقام “مقلقة” وبنية تحتية متداعية

وفق تقرير لمنظمة الصحة العالمية في أيلول الماضي، يحتاج أكثر من 16.7 مليون شخص في سوريا إلى دعم صحي إنساني عاجل.

مع عجز 57% فقط من المستشفيات و37% من مراكز الرعاية الصحية الأولية عن العمل بكامل طاقتها، يواجه ملايين الأشخاص خطر الإصابة بأمراض يمكن الوقاية منها والوفاة.

كما حذر تقرير صادر عن منصة “Health Policy Watch” من أزمة بالقطاع الصحي في سوريا، في ظل ضعف الحوكمة، وهجرة الكوادر، وتردي البنية التحتية، وسط تحديات مالية وأمنية متزايدة.

وأشار التقرير، الذي نُشر في 5 من آب الماضي، إلى أن نظام الرعاية الصحية في سوريا يعاني من أزمات متعددة، أبرزها نقص التمويل، وغياب الكوادر المدربة، بالإضافة إلى التحديات الأمنية التي تعوق أي تقدم في تطوير هذا القطاع الحيوي.

وبحسب ما ذكره التقرير، فإنه وفقًا لتقديرات الحكومة السورية، تعرّض نحو 40% من البنية التحتية للرعاية الصحية في سوريا للدمار خلال سنوات الحرب، وفي الوقت الذي تحاول فيه الحكومة تأمين تمويل لإعادة الإعمار، تواجه تحديات كبيرة بسبب تعدد الأزمات الإنسانية وانخفاض استجابة المانحين.

ووفق ما ذكرته وزارة الصحة لعنب بلدي، فإن ما بين 48 و55% من المنشآت الصحية تحتاج إلى ترميم كلي أو جزئي، وتعمل الوزارة بالتعاون مع الحكومة والجهات الشريكة على إعادة تأهيلها وفق الأولويات الصحية.

وتشير تقديرات منظمة “أطباء بلا حدود” إلى أن القطاع الصحي في سوريا يحتاج بشكل عاجل إلى نحو أربعة مليارات دولار لتأمين الحد الأدنى من الخدمات الطبية.

نقص حاد في الأدوية والخدمات

شكّل نقص الأدوية والمستلزمات الطبية والمستهلكات أحد أبرز التحديات خلال عام 2025، في الوقت التي تسعى فيه وزارة الصحة السورية إلى تأمينها عبر الشراء المباشر أو من خلال التعاون مع الشركاء.

وذكر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، في 22 من تموز الماضي، أن سوريا تعاني منذ بداية الحرب من نقص حاد في المواد الطبية والخدمات الاستشفائية.

وتعاني المستشفيات في سوريا من أزمة في المستلزمات الطبية والمستهلكات الإسعافية الأساسية المستخدمة يوميًا في أقسام الطوارئ والعناية.

هذا النقص المستمر يتسبب بمشكلات يومية ومشاحنات بين المرضى وذويهم من جهة، والكادر الطبي من جهة أخرى، ويدفع الأهالي إلى شراء أبسط الأدوات الطبية مثل الحقن (السرنجات) ونواقل السيروم على نفقتهم الخاصة، بالإضافة إلى شراء المستهلكات الطبية اليومية بأنفسهم، مثل القطن والشاش ومحلول “البوفيدون”، وهو ما يضاعف الأعباء المالية على الأسر التي تعاني أصلًا من تكلفة العلاج المرتفعة.

وأوضح وزير الصحة، مصعب العلي، أن أحدث المعدات الطبية في القطاع العام تعود لعام 2011، ما يعكس حجم التأخر التقني.

كما وضعت الوزارة مع الخبراء خطة شاملة للتمويل الصحي للأعوام المقبلة، ضمن استراتيجيتها العامة.

كوادر طبية في خطر الانهيار

تفاقم النقص في الكوادر الطبية عام 2025، وعلى وجه الخصوص اختصاص التخدير والطب الشرعي والطوارئ وطب الأسرة، نتيجة ما مارسه النظام السابق من قتل واعتقال واستهداف للكوادر الطبية وقصف للمنشآت الصحية، ما دفع أعدادًا كبيرة من الكوادر إلى الهجرة.

ولا توجد إحصائية دقيقة تكشف العدد الكلي الدقيق للأطباء المهاجرين، مع وجود عدة إحصائيات تتناول نسب تقريبية، وذكر نقيب أطباء سوريا، الدكتور مالك عطوي، لعنب بلدي، أن عدد الأطباء الكلي في سوريا بحدود 45 ألف طبيب، وخارج البلد أكثر من عشرة آلاف.

أما الاختصاصات الأكثر نقصًا فهي: التخدير والإنعاش، التشريح المرضي، والطب الشرعي، وتصل نسبة النقص في قسم التخدير لأكثر من 75%، بحسب الدكتور عطوي.

ولتغطية النقص، تعمل الوزارة على فتح باب التعاقد مع الأطباء، الذين يرغبون في العمل مع الوزارة لتعويض النقص الحاصل في هذه الاختصاصات.

مع نزوح مئات الآلاف داخليًا، وملايين يعيشون تحت خط الفقر، انخفض الوصول إلى الرعاية الصحية بشكل حاد في مناطق الريف والمخيمات.

وفي تموز الماضي، عقدت منظمة الصحة العالمية اجتماعًا مع وزير الصحة السوري، مصعب العلي، بهدف إعادة توزيع القوى العاملة في القطاع الصحي بين الريف والمدينة وتعزيز كفاءة الخدمات الصحية.

وتطرق الاجتماع حينها إلى أساليب التخطيط الحديثة واستراتيجية “هيلما” في تحليل أسواق العمل بهدف إنشاء قاعدة بيانات دقيقة ومحدثة للقطاع الصحي في سوريا.

واجهة مستشفى حلفايا المدمر بحماة – 1 تموز 2025 (وزارة الصحة/فيسبوك)

ارتفاع التكاليف الطبية

مع تراجع البنية التحتية، ونقص الكوادر الطبية والمعدات الأساسية، باتت رحلة البحث عن سرير أو جهاز طبي أشبه بمعاناة تضاف إلى ألم المرض نفسه.

ويدفع ارتفاع تكلفة العلاج في القطاع الخاص للاعتماد بشكل متزايد على المستشفيات العامة، ورغم أن بعض الفحوص في المستشفيات العامة أرخص مقارنة بالقطاع الخاص، فإن طول مدة الانتظار وضعف الطاقة الاستيعابية يجعل الحصول على هذه الخدمة صعبًا ومرهقًا.

يضاف إلى ذلك غياب دعم واضح في إطار التأمين الصحي، إذ لا تغطي شركات التأمين تكاليف العلاج بشكل فعّال، ما يترك المرضى أمام أعباء مالية متزايدة.

أدى هذا الضغط المتزايد إلى أعطال متكررة في الأجهزة، نتيجة الاستهلاك المفرط، ما يطيل فترات الانتظار ويؤخر المواعيد الطبية للمرضى.

حملات لتخفيف الضغط واتفاقيات دولية

دفعت الأزمة الصحية في سوريا منظمات دولية وجهات مانحة إلى ضخ مساعدات طارئة، كما أعلنت سفارات ومنظمات مانحة دعمًا لبعض المستشفيات والخدمات.

هذه المساعدات أنقذت بعض المراكز من الإغلاق، ووفّرت بعض الأدوية والمستلزمات الأساسية، لكنها تبقى “حلًا جزئيًا ومؤقتًا” في بلد يحتاج إلى إعادة بناء شاملة للنظام الصحي.

وبرزت عدة حملات لدعم الرعاية الصحية، كحملة “شفاء” الطبية، التي قدمت عمليات جراحية مجانية، ومعاينات للمرضى ودورات تدريبية للكوادر المحلية، مع توفير دعم لوجستي وتقني للمستشفيات، وتغطية 11 محافظة، وشملت نحو 2000 عملية جراحية وآلاف الاستشارات.

وركزت حملة “أبصر” على دعم مرضى العيون، وتقديم جراحات الساد والمياه البيضاء في مناطق متعددة، بالتعاون مع فرق طبية محلية ودولية، بهدف تقليل قوائم الانتظار وتحسين البصر للآلاف من المرضى.

كما أطلقت وزارة الصحة بالتعاون مع منظمة “الأمين” عددًا من المشاريع الطبية، تضمنت تجهيز المراكز الصحية وتدريب الكوادر الطبية وعمليات نوعية جراحية للكبار والصغار، بالإضافة إلى ما قدمته منظمة “أطباء بلا حدود” ومنظمة الصحة العالمية من استشارات طبية ودعم للبنية التحتية، وإدراج الصحة النفسية ضمن الخدمات العامة، مع التأكيد على التمويل المستدام واستعادة الكوادر الصحية.

كما قدمت دول، كقطر والسعودية وألمانيا واليابان وإيطاليا، دعمًا مباشرًا للقطاع الصحي في سوريا، شمل مساعدات طبية وتجهيز مستشفيات وإعادة تأهيل مرافق صحية حرجة، عبر اتفاقيات تم توقيعها مع وزارة الصحة أو عبر مساعدات تم تقديمها بشكل مجاني.

خطوة على طريق تعافي القطاع الصحي

وقعت وزارتا الصحة والمالية، في تشرين الثاني الماضي، الميثاق الوطني للصحة، الذي يهدف إلى وضع استراتيجية إعادة بناء النظام الصحي السوري، وتحقيق التغطية الصحية الشاملة لجميع المواطنين بحلول عام 2030.

وتحدث المكتب الإعلامي في وزارة الصحة، لعنب بلدي، عن رؤية الميثاق، الذي يمثل إطارًا وطنيًا موحدًا للعمل، يعكس عزم سوريا على الانتقال من مرحلة الاستجابة الإنسانية إلى إعادة الإعمار والمرونة الطويلة الأجل.

ويهدف “الميثاق” إلى بناء نظام صحي قائم على العدالة والجودة، يضمن حصول كل مواطن على الخدمات الصحية الأساسية، دون معاناة مالية.

  • إعادة تأهيل البنية التحتية الصحية: إعادة تأهيل المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الأولية وتجهيزها وفقًا للمعايير الوطنية.
  • تعزيز قدرات القوى العاملة الصحية: تطوير استراتيجية لتدريب وتوزيع الكوادر الصحية، وتقليل النقص في المناطق المحرومة.
  • تمويل الصحة: تطوير إطار تمويل مستدام، ما يقلل الاعتماد على المدفوعات المباشرة من جيوب المواطنين ويعزز الحماية المالية.
  • حزمة الخدمات الصحية الأساسية: تطوير وتنفيذ حزمة خدمات صحية أساسية، لتقديم رعاية متكاملة وتركز على المريض.
  • الحوكمة والشراكات: تعزيز التنسيق بين جميع الجهات الفاعلة في القطاع الصحي، المحلية والدولية.
  • الوصول إلى الأدوية والمنتجات الطبية: ضمان توفر الأدوية الأساسية بشكل مستدام من خلال تعزيز الإنتاج المحلي وسلاسل الإمداد.
  • التحول الرقم: بناء نظام صحي رقمي متكامل، لتحسين جمع البيانات واتخاذ القرار.
  • الأمن الصحي: تعزيز القدرات الوطنية للاستعداد والكشف والاستجابة للطوارئ الصحية، وفقًا للوائح الصحية الدولية.

رغم الجهود المتنوعة من وزارة الصحة السورية، والمنظمات الدولية، والحملات الطبية، لا يزال القطاع الصحي في سوريا يواجه تحديات هيكلية حادة، تشمل نقص الكوادر وضعف البنية التحتية ونقص الأدوية والمستلزمات الأساسية.

الدعم الدولي أسهم في تخفيف الضغط، لكنه يبقى جزءًا من حل مؤقت يحتاج إلى استراتيجيات طويلة المدى، إلا أن الأمل يبقى معلقًا على تنفيذ الميثاق الوطني للصحة، الذي يسعى لبناء نظام صحي مستدام وشامل، قادر على تقديم رعاية عادلة لكل السوريين، وتحويل الدعم المؤقت إلى إصلاح حقيقي ومستدام للقطاع.

مرتبط



إقرأ المزيد