اقتصاد تحرير السوق يتجاوز القدرة على التكيف
عنب بلدي -

عنب بلدي – مارينا مرهج

خلال عام كامل على سقوط نظام الأسد، دخلت سوريا واحدة من أوسع عمليات التحول الاقتصادي في تاريخها الحديث، تمحورت حول تحرير السوق، وإعادة فتح التجارة، وتفكيك منظومة القيود والعقوبات الداخلية، وتنشيط الصناعة والإنتاج بعد سنوات من الشلل.

اتخذت الحكومة سلسلة قرارات غيّرت شكل السوق جذريًا، شملت إلغاء العقوبات التي كانت تودي بالتجار إلى السجن، والانتقال من التسعير الإداري إلى السوق المفتوح، والسماح بحيازة الدولار، وتخفيف القيود على الاستيراد، وإعفاءات جزئية على مستلزمات الإنتاج، وإعادة تفعيل غرف التجارة والصناعة، وفتح المعابر أمام حركة البضائع، وتوقيع اتفاقيات دولية مع شركات إقليمية في مجالات مختلفة تعنى بالاقتصاد والاستثمار.

هذه الخطوات أدت إلى تحريك عجلة الاقتصاد، وعودة آلاف الورشات والمعامل الصغيرة إلى العمل، وانتعاش الأسواق في عدد من المدن، وارتفاع ملحوظ في حجم البضائع المستوردة والمتداولة، لكن في المقابل، رافقتها موجة غلاء غير مسبوقة، وتآكل واسع في القدرة الشرائية، واتساع الفجوة بين سرعة تحرر السوق وبطء تعافي دخل المواطنين.

في هذه البانوراما، تحاول عنب بلدي تفكيك عام من أداء وزارة الاقتصاد والصناعة، ما الذي تحقق فعلًا؟ ما الذي تعثّر؟ وأين يقف المجتمع في معادلة “التحرير”؟

بعد سنوات من الإغلاق

سجل عام 2025 تحولًا في حجم الاستيراد والتصدير قياسًا بسنوات ما قبل سقوط النظام، فقد جرى تبسيط إجراءات الاستيراد، وتخفيف القيود على إدخال المواد الأولية، وفتح قنوات توريد مباشرة مع دول الجوار، وعودة خطوط الشحن البري والبحري تدريجيًا، بحسب ما قاله أمين سر جمعية حماية المستهلك، عبد الرزاق حبزة، في حديث إلى عنب بلدي.

وأضاف أن هذا الانفتاح انعكس سريعًا على الأسواق بوفرة غير مسبوقة في السلع، من المواد الغذائية إلى الأجهزة الكهربائية ومواد البناء.

وأشار حبزة إلى أن السماح بحيازة الدولار سهل عمليات التوريد، كما أن تخفيف القيود الإدارية أعاد الثقة لقطاع واسع من التجار الذين كانوا غائبين عن السوق لسنوات.

لكن هذا الانتعاش التجاري لم يُترجم إلى تحسن في حياة الناس، بحسب الأستاذ في قسم إدارة الأعمال بكلية الاقتصاد في جامعة “دمشق” الدكتور زكوان قريط، الذي قال لعنب بلدي، إن زيادة العرض لم تقابلها زيادة في القدرة على الطلب، ما حول جزءًا من الوفرة إلى “ركود مقنع” في بعض القطاعات، خصوصًا السلع المعمرة.

زيادة العرض لم تقابلها زيادة في القدرة على الطلب، ما حول جزءًا من الوفرة إلى “ركود مقنع” في بعض القطاعات، خصوصًا السلع المعمرة.

زكوان قريط

أستاذ إدارة الأعمال في كلية الاقتصاد بجامعة “دمشق”

الاتفاقيات الاستثمارية الدولية

راهنت الحكومة خلال عام بعد سقوط النظام السابق على بوابة الاتفاقيات الاستثمارية الدولية باعتبارها أحد المسارات الأساسية لإنعاش الاقتصاد، فشهدت الفترة الماضية توقيع عدد من مذكرات التفاهم والاتفاقيات الأولية مع شركات ودول إقليمية وأجنبية في قطاعات الصناعة والطاقة والنقل والبنية التحتية والخدمات اللوجستية، قُدرت بمليارات الدولارات.

وقد روّج لهذه الاتفاقيات على أنها مدخل لاستقطاب رؤوس الأموال، ونقل التكنولوجيا، وتوفير فرص العمل، وتعويض جزء من الفاقد الإنتاجي الذي راكمته سنوات الحرب.

لكن رغم الزخم الإعلاني المرافق لهذه التوقيعات، فإن الأثر الفعلي على الأرض لا يزال محدودًا ومتفاوتًا، إذ إن جزءًا كبيرًا من هذه الاتفاقيات بقي في إطار النيات والتفاهمات الأولية، بانتظار استكمال البيئة القانونية، وضمانات التحويل، واستقرار منظومة الطاقة والنقل.

في هذا السياق، يرى الدكتور زكوان قريط، أن الاتفاقيات الاستثمارية تمثل رهانًا ضروريًا في مرحلة إعادة الإقلاع، لكنها لن تتحول إلى مشاريع حقيقية ما لم تترافق مع بيئة شفافة، وأدوات حماية قانونية للمستثمر، واستقرار تشريعي طويل الأمد، محذرًا من أن أي اهتزاز في هذه العناصر سيبقي الاستثمار في إطار الوعود لا التنفيذ.

من جهته، يربط عبد الرزاق حبزة جدوى هذه الاتفاقيات بقدرتها على الانعكاس المباشر على السوق المحلية والإنتاج والتشغيل، لا بالاكتفاء بإعلانات كبرى لا يشعر بها المواطن، معتبرًا أن نجاح الاستثمار لا يقاس بعدد المذكرات الموقّعة، بل بحجم المعامل التي دخلت فعلًا الخدمة، وعدد فرص العمل التي خُلقت، وأثرها على الأسعار والأسواق.

نجاح الاستثمار لا يقاس بعدد المذكرات الموقّعة، بل بحجم المعامل التي دخلت فعلًا الخدمة، وعدد فرص العمل التي خُلقت، وأثرها على الأسعار والأسواق.

عبد الرزاق حبزة

أمين سر جمعية حماية المستهلك- دمشق

وبين التفاؤل الحذر والانتظار الثقيل، تبقى الاتفاقيات الاستثمارية أحد العناوين الكبرى لعام ما بعد السقوط، لكنها لا تزال تخضع لاختبار الزمن والتنفيذ، في اقتصاد أنهكته الوعود أكثر مما خدمته المشاريع المنجزة.

مواطنون يشترون الخضار في أحد أسواق دمشق – 27 تشرين الثاني 2025 (عنب بلدي)

الصناعة: عودة متواضعة بعد دمار واسع

سجل عام 2025 إعادة تشغيل آلاف الورشات والمعامل الصغيرة والمتوسطة، لا سيما في الصناعات الغذائية والنسيجية والبلاستيكية ومواد البناء.

وقد أسهمت الإعفاءات الجزئية على الآلات وبعض المواد الأولية في تخفيف تكلفة الدخول مجددًا إلى الإنتاج.

يرى حبزة أن هذه الإعفاءات تمثل خطوة صحيحة لكنها غير كافية، ويطالب بتوسيعها لتشمل معظم مستلزمات الإنتاج، مع تخفيض حقيقي في الرسوم الجمركية، لأن التكلفة الحالية لا تزال أعلى من قدرة الصناعيين الصغار والمتوسطين.

من جهته، يربط قريط تعثر الإقلاع الصناعي السريع بعوامل بنيوية أعمق: ضعف البنية التحتية، ارتفاع تكلفة الطاقة، اهتزاز شبكة النقل، تراجع الطلب المحلي.

وبحسب تقديره، فإن الصناعة السورية انتقلت من مرحلة “البقاء على قيد الحياة” إلى مرحلة “محاولة الوقوف”، لكنها لم تدخل بعد مرحلة النهوض الفعلي.

من اقتصاد العقوبات الداخلية إلى اقتصاد السوق المفتوح

التحولات الجوهرية الأولى التي شهدها عام 2025 تمثّلت في تفكيك البنية الردعية التي حكمت النشاط التجاري لعقود، إذ إن صدور مرسوم القانون رقم “80” لعام 2025، الذي ألغى العمل بالعقوبات السجنية المنصوص عليها في القانون رقم “8” لعام 2021، بحق التجار في حال المخالفات، شكّل نقطة انعطاف مركزية في علاقة الدولة بالسوق، بعد أن أنهى الخوف الذي كان يقيّد الحركة التجارية ويجمّد رؤوس أموال واسعة خارج التداول، بحسب حبزة، إذ رأى أن هذا التحول كان ضروريًا بعد سنوات من الشلل، وأكد أن العقوبات السابقة لم تكن تحمي المستهلك بقدر ما كانت تخنق السوق.

وقال إنه مع الانتقال إلى السوق الحر وإلغاء التسعير الإداري، تغير شكل العلاقة بين التاجر والمستهلك بالكامل، لكن هذا الانتقال، وفق حبزة، تم بسرعة أكبر من قدرة المجتمع على التكيف معه، ما فتح الباب أمام فوضى تسعيرية واضحة.

في المقابل، يعتبر الباحث الاقتصادي زكوان قريط، أن هذا التحول جزء من مسار انتقالي لا يمكن أن يكون بلا تكلفة، محذرًا من أن تحرير السوق من دون بناء أدوات رقابة حديثة يخلق سوقًا حرة ضعيفة الحماية، حيث تتوسع هوامش الاحتكار والربح السريع على حساب الاستقرار الاجتماعي.

الأسعار والأرباح.. السوق بلا سقف

أحد أكثر الملفات حساسية في عام “التحرير” كان انفلات الأرباح وغياب أي سقوف فعلية لهوامش الربح، فمع إلغاء التسعير الإداري، تحوّل السوق إلى مساحة مفتوحة بالكامل، ما أطلق سباقًا بين التجار على تعظيم الربح في ظل غياب قواعد واضحة.

عبد الرزاق حبزة، لفت إلى ضرورة وضع سعر استرشادي وسقف ربح أعلى لمنع الربح الفاحش، منوهًا إلى أن ترك الأرباح دون ضوابط يضرب جوهر الاقتصاد المجتمعي ويحوّل السوق إلى بيئة طاردة للمستهلك.

في المقابل، يربط قريط انفلات الأسعار بضعف البنية الرقابية، مؤكدًا أن المشكلة لا تكمن في مبدأ السوق الحر بحد ذاته، بل في غياب أدوات تضمن المنافسة العادلة وتمنع تكوّن الكتل الاحتكارية.

وكانت وزارة الاقتصاد أصدرت قرارًا، في 12 من تشرين الأول الماضي، يلزم المنتجين والمستوردين بتدوين السعر النهائي للمستهلك بشكل واضح على المنتجات، لضبط الأسواق، ومنع التلاعب، وترسيخ مبدأ الشفافية التجارية، معتبرة أن إعلان السعر حق أساسي للمستهلك، وأن الوزارة تحمل مسؤولية ضمان هذا الحق.

وقال مدير حماية المستهلك وسلامة الغذاء في الإدارة العامة للتجارة الداخلية وحماية المستهلك، حسن الشوا، في تصريحات له، إن تحرير الأسعار ترك المجال مفتوحًا أمام المنتجين لتحديد أسعارهم وفق تكاليف الإنتاج والنقل والعوامل الاقتصادية الأخرى.

بيئة الأعمال.. من الفوضى إلى إعادة الضبط المؤسسي

شهد عام ما بعد سقوط النظام حراكًا واسعًا في ملف السجل التجاري وتنظيم النشاط الاقتصادي، بوصفه أحد المفاتيح الأساسية لإعادة ضبط السوق والحد من الفوضى التي راكمتها سنوات من التلاعب والاقتصاد غير المنظم.

فبعد مرحلة من الإرباك الناتج عن إلغاء آلاف السجلات الوهمية أو غير القانونية، بدأت الحكومة بالانتقال إلى مقاربة أكثر مؤسساتية لتنظيم هذا الملف، تقوم على التبسيط وضبط الإجراءات في آن واحد.

ويرى أمين سر جمعية حماية المستهلك، عبد الرزاق حبزة، أن هذه الإجراءات تمثل خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح، لكنها ما زالت بحاجة إلى مزيد من التسهيل العملي ومنع التعقيد البيروقراطي، محذرًا من أن أي تشدد غير مدروس قد يعوق عودة التجار الصغار إلى العمل النظامي.

بالمقابل، يعتبر الأكاديمي زكوان قريط أن تنظيم السجل التجاري لا يكتمل أثره ما لم يترافق مع نظام ضريبي عادل ورقابة فعالة على السوق، كي لا يتحول التنظيم إلى عبء إداري جديد بدل أن يكون أداة لضبط الاقتصاد المجتمعي.

الطاقة عقدة الصناعة والتجارة

شكّل ملف الطاقة أحد أكثر العوامل ضغطًا على التجارة والصناعة خلال عام 2025، ورغم أن توفر المحروقات مقارنة بالسنوات الماضية أعاد الحركة إلى الأسواق ووسائل النقل، فإن الأسعار المرتفعة لها بقيت عائقًا أساسيًا أمام خفض تكلفة الإنتاج.

حبزة أشار إلى أن رفع أسعار الكهرباء لم يكن فعليًا بسبب ربطها بالدولار، وأن أي رفع جديد سينعكس فورًا على الأسعار في الأسواق، وفي ظل بقاء الأجور متدنية، فإن تحسن التوفر ترافق مع تدهور القدرة على الشراء.

وأكد قريط أن ملف الطاقة سيبقى العقدة الأساسية لأي نهضة صناعية حقيقية، ما لم يتم فك ارتباطاته الريعية، وإعادة بنائه كقطاع خدمي داعم للإنتاج لا مثقل له.

اقتصاد الريف خارج الحسابات

رغم أن الزراعة تشكل ركيزة أساسية للاقتصاد المجتمعي، فإنها بقيت خلال العام خارج أولويات الدعم الحقيقي، فارتفاع أسعار الأعلاف، وتذبذب سياسات الاستيراد، ومنع إدخال بعض المواد وفتح إدخال أخرى، أدى إلى ضرب توازن الإنتاج الحيواني.

تهميش القطاع الزراعي سيقوّض أي محاولة لبناء اقتصاد إنتاجي حقيقي، لأن الزراعة ليست فقط غذاء، بل شبكة أمان اجتماعي لملايين العائلات.

زكوان قريط

أستاذ إدارة الأعمال في كلية الاقتصاد بجامعة “دمشق”

حبزة انتقد بشدة استيراد الفروج المجمّد ومنع استيراد البيض في بعض الفترات، معتبرًا أن هذه السياسات أضرّت مباشرة بالمربين ورفعت تكاليف الإنتاج المحلي، كما طالب بإعفاء الأعلاف من الرسوم الجمركية وتشجيع استيراد العجول والأبقار الحلوب لدعم الأمن الغذائي.

من جهته، يرى قريط أن استمرار تهميش القطاع الزراعي سيقوّض أي محاولة لبناء اقتصاد إنتاجي حقيقي، لأن الزراعة ليست فقط غذاء، بل شبكة أمان اجتماعي لملايين العائلات.

الدولة والتجار والمجتمع.. من يوجّه السوق؟

السؤال الأساسي الذي يطفو بعد عام على “تحرير الاقتصاد” هو من يقود السوق اليوم؟

بحسب حبزة، تراجعت أدوات التدخل الحكومي المباشر إلى حد كبير، بينما توسعت سلطة كبار التجار من دون وجود توازن حقيقي يكبحها.

تراجعت أدوات التدخل الحكومي المباشر إلى حد كبير، بينما توسعت سلطة كبار التجار من دون وجود توازن حقيقي يكبحها.

عبد الرزاق حبزة

أمين سر جمعية حماية المستهلك- دمشق

ودعا إلى شراكة فعلية بين القطاعين العام والخاص، وإشراك المجتمع الأهلي في القرار الاقتصادي عبر جمعيات حماية المستهلك.

أما قريط فيرى أن غياب الحوكمة الاقتصادية المتكاملة هو الخطر الأكبر حاليًا، محذرًا من أن ترك السوق دون بوصلة اجتماعية سيقود إلى نمو اقتصادي هش، وغير عادل، وقابل للانفجار مع أي صدمة جديدة.

بعد عام على سقوط نظام الأسد، يمكن القول إن وزارة الاقتصاد والصناعة نجحت في تفكيك القيود القديمة، وتحريك التجارة، وإعادة الحياة إلى جزء مهم من القطاع الصناعي.

استعادت الأسواق حيويتها، وتدفقت السلع، وتحركت الورشات، وانفتح البلد على محيطه التجاري من جديد، لكن في المقابل، لم تنتقل هذه الحركة إلى تحسن ملموس في حياة معظم السوريين، فالأسعار ارتفعت، والأرباح انفلتت، والأجور بقيت متآكلة، والزراعة ما زالت الحلقة الأضعف.

وبينما تحرّر السوق بسرعة، بقي المجتمع بلا شبكة أمان حقيقية، ليعتبر عام “الاقتصاد بعد السقوط” عام كسر الجمود لا عام التعافي، وعام فتح الأبواب لا عام الاستقرار.
وما لم تُستكمل هذه التحولات بسياسات حمائية ذكية، ورقابة حقيقية، ودعم مباشر للإنتاج المحلي، فإن الاقتصاد السوري سيبقى اقتصادًا متحررًا بلا عدالة.

مرتبط



إقرأ المزيد