عنب بلدي - 12/8/2025 10:34:11 AM - GMT (+2 )
تعرّض الساحل السوري خلال سنوات طويلة لإهمال واسع النطاق طال البنى التحتية الأساسية، وأصاب الاقتصاد بالشلل، وترك آثارًا عميقة في النسيج المجتمعي، نتيجة الانقسامات والصراعات.
مع سقوط النظام السابق، أصدرت الحكومة الانتقالية قرارات بحلّ الجيش وتسريح عدد كبير من الموظفين في القطاع الحكومي أو إحالتهم إلى إجازة طويلة الأمد، ما دفع كثيرين من أبناء الساحل السوري إلى البحث عن مهن بديلة ومصادر دخل جديدة، بعدما فقدوا “الراتب” مصدر العيش الأساسي الذي كانوا يعتمدون عليه لعقود.
رحلة البحث عن مصادر عيش جديدةتشتهر مناطق الساحل السوري بالزراعة، إذ يعتمد المزارعون على الزراعة البعلية والبيوت الزجاجية، وتنتشر زراعة الحمضيات والخضار والفواكه الاستوائية، كما ينشط قطاع السياحة، إذ توجد آثار تاريخية وطبيعة ساحرة وشواطئ كانت تجذب سياحًا من كل دول العالم قبل الحرب، كما تشتهر بوجود عدد من المواني ومصافي النفط التي تدعم اقتصاد المنطقة واقتصاد البلاد ككل.
كما يعتمد اقتصاد الساحل السوري على أنشطة متنوّعة مثل الصيد البحري والحرف اليدوية والصناعات الصغيرة، لكن هذه الأنشطة تآكلت خلال السنوات الماضية، إذ أهملتها الحكومات المتعاقبة للنظام السابق، وتسببت ظروف الحرب والإجبار على الخدمة الإلزامية أو الهجرة القسرية بخسارة الشريحة الأكبر من القوى العاملة، إضافة إلى سياسة حكم “البعث” التي ركّزت على توجيه أبناء المنطقة للعمل في القطاع الحكومي مقابل تراجع المهن التي توارثوها تاريخيًا.
وبالنظر إلى وضع قطاع الزراعة، واجه مزارعو الخضار هذا العام تحديات متعلّقة بارتفاع مستويات الجفاف وقلّة الأمطار، وهي مشكلة تُعاني منها معظم الأراضي السورية، بالإضافة إلى مشكلات قلة الدعم بالأسمدة والبذار وغلاء هذه المنتجات في الأسواق، كما تسبّب الصقيع في هذا الموسم بتلف جزء كبير من المحاصيل، ما أدى لارتفاع أسعار الخضار والفواكه في عموم سوريا.
شهدت المنطقة في الشهور الأخيرة عودة لمهن اندثرت منذ عقود، مثل مهنة تربية المواشي، والتي بدأت تزدهر بسبب مردودها الاقتصادي الجيد في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها أهالي الساحل، مثل تراجع الليرة السورية وقلّة فرص العمل وارتفاع الأسعار.
وتمثل عودة النشاط للقطاع الزراعي والحيواني فرصة جديدة لتحريك عجلة اقتصاد المنطقة والبلاد ككل، لذا من المهم دعم المزارعين ومربي الماشية ببيع الأسمدة والأعلاف بأسعار مدعومة، وتعزيز فكرة التعاونيات الزراعية التي تخفف من الأعباء على الحكومة وتزيد من فاعلية عمل القطاع الزراعي وتحسّن من سرعة وجودة الإنتاج.
إضافة إلى أهمية إيجاد حلول لمشكلة الجفاف، والعمل على توفير الكهرباء بشكل أكبر وتقليل ساعات تقنينها في المزارع لمواجهة الظروف الصعبة مثل الصقيع الذي تسبب بأضرار كبيرة للبيوت البلاستيكية، وربط المزارعين بشبكات جديدة من الأسواق تُتيح لهم بيع محاصيلهم بأسعار أفضل.
برزت مهنة جمع الحطب وبيعه، أو تحويله إلى فحم، كأحد أكثر الأعمال انتشارًا في الساحل، رغم ما تشكّله من خطر مباشر على الأحراج والغابات، التي بدأت تفقد ملامحها وتتعرّض للتصحر.
الفقر وانعدام فرص العمل، وارتفاع الأسعار بشكل جنوني، دفع عددًا كبيرًا من السكان إلى تجاهل كل التحذيرات البيئية، والاتجاه للعمل في هذا المجال، خاصة بعد ضعف أو غياب الرقابة الرسمية والتي تمثلت بتقليص عدد العاملين في الحراج والإطفاء من قبل مديريات الزراعة باللاذقية وطرطوس إلى مستوى غير مسبوق، وسط مطالبات بإعادة هؤلاء إلى مواقعهم الوظيفية لامتلاكهم خبرة تراكمية بهذا القطاع الحساس، تحديدًا بعد موجة الحرائق الكارثية التي شهدتها مناطق مختلفة مؤخرًا.
كما انتشرت “البسطات” في جميع المحافظات السورية، لكن الساحل كان أكثرها احتضانًا لها، إذ أصبحت “البسطة” مصدر الدخل الرئيس لكثير من العاطلين عن العمل.
إحياء المواني ومصافي النفطفي سياق آخر، بدأت عودة النشاط إلى المواني ومصافي النفط السورية على البحر المتوسط، إذ وصلت مجموعة من البواخر التجارية، والتي كان منها بواخر مُحمّلة بشحنات من المواد الغذائية، أو السيارات أو الفحم والنفط.
وتُعدّ هذه التطورات بارقة أمل جديدة من الممكن أن تؤدي إلى زيادة فرص العمل في المنطقة، لكن يجب وضع ضوابط صارمة تحكم عمليات الاستيراد والتصدير، إذ إن إغراق السوق السوري ببضائع ذات جودة ضعيفة وقيمة مضافة قليلة ستضر بالإنتاج المحلي وستجعل الاقتصاد السوري استهلاكيًا وليس إنتاجيًا، وهو أمر سلبي على المدى الطويل.
ماذا عن القطاع السياحي؟أما بالنظر للقطاع السياحي في الساحل، فأطلقت الحكومة الانتقالية عددًا من المشاريع لتطوير المواقع السياحية، مثل ترميم الآثار، واستحداث الشرطة السياحية المعنيّة بحراسة المواقع السياحية والتواصل مع السياح، وتوقيع اتفاقيات استثمارية مع دول وشركات عالمية لتطوير المنشآت السياحية.
من المهم ضبط الأمن في المنطقة وفي سوريا عمومًا وضمان استقرارها، إذ يُعدّ الفلتان الأمني واحدًا من أهم أسباب تراجع السياحة الداخلية، ولا يزال التعويل على القطاع السياحي في الساحل السوري بعد عام من سقوط النظام السابق ضعيفًا بالنظر لعدم وجود حالة استقرار تُشجّع السيّاح العرب والأجانب على القدوم إلى سوريا.
على الصعيد الخدمي في الوقت الحالي، تُعاني مناطق الساحل من المشكلات العامة التي تُعاني منها سوريا، مثل ضعف ورداءة البنى التحتية في الصحة والكهرباء والماء والاتصالات والخدمات الأساسية الأُخرى، إلّا أن المؤسسات الحكومية والمنظمات العاملة في المنطقة تُنفّذ العديد من المشاريع للتخفيف من هذه المشكلات قدر المستطاع.
فقد عملت مؤسسة الكهرباء على الاستعداد لفصل الصيف الماضي عبر تكثيف عمليات الرقابة والصيانة، كما بدأت مؤسسة النقل الداخلي بشراء حافلات نقل إضافية لتحسين مستوى النقل داخل المدن، وإعادة تأهيل محطات مياه الشرب.
بالنظر إلى المنظمات المدنية العاملة في المنطقة، فقد نشط عدد من الحركات السياسية التي تأسّست حديثًا في تقديم الدعم الإغاثي للمتضررين من أحداث الساحل الدامية التي وقعت في آذار مثل “الحركة المدنية الديمقراطية“، و”حركة الشغل الديمقراطي“، و”التيار السوري المدني الحر“، وهي حركات ذات توجُّه علماني/يساري يتمركز بعضها في الخارج، وتنشط حاليًا بالشكل الأكبر في نشر البيانات حول القضايا السياسية المتعلقة بالبلاد، وليس لها نشاط كبير على الأرض سوى إقامة بعض الندوات الثقافية أو تقديم بعض الدعم الإغاثي.
كما نشط في منطقة الساحل بعد أحداث آذار عدد من المنظمات المدنية والإغاثية من مدن سورية مختلفة، مثل “بسمة وزيتونة“، و”فريق حوران“، ومؤسسة رنا الخيرية التنموية“، و”جمعية فضا للتنمية المجتمعية“، و”شبكة وصل“، وذلك بتوزيع الدعم الإغاثي على الأهالي أو تأمين احتياجات الطلاب الجامعيين في منطقة الساحل الذين تضرروا بسبب الأحداث.
تطفو معاناة الكوادر التربوية من المعلمين والمدرسين في الساحل السوري، وتحديدًا محافظة طرطوس، على سطح مشكلات قطاع التربية والتعليم، إذ نُقل عدد كبير منهم من المثبتين والمتعاقدين الاختصاصيين والمعينين بموجب مسابقات نظامية من الفئة الأولى، من محافظات أخرى إلى اللاذقية وطرطوس، بقرارات وزارية وبناءً على استغناء خطي من المديريات المنقولين منها واحتياج فعلي خطي من المديريات المنقولين إليها (مديريتا التربية والتعليم في طرطوس واللاذقية).
قبل أن تقوم مديرية التربية والتعليم في محافظة طرطوس مؤخرًا باعتماد قرارات أعادت بموجبها معلمين على أبواب التقاعد ونهاية الخدمة إلى داخل الصف، ممّن كانوا قد كلّفوا أو أحيلوا إلى أعمال إدارية، الأمر الذي انعكس سلبًا بحسب مراقبين على جودة العملية التربوية والتعليمية بالمحافظة بسبب استبعاد الخبرات والدماء الشابة الذين كانوا يشغلون شواغر نظامية، إضافة إلى تهديد مصير عدد ليس بالقليل من المعلمين المتعاقدين بموجب مسابقات المنقولين حديثًا والذين جرى وضعهم “تحت التصرف” مؤقتًا، وسط مناشدات لوزارة التربية والتعليم لإيجاد حلول ناجعة وعادلة لهذه الشريحة وإنصافها، عوضًا عن هدر حقوقها.
ورغم كثرة الأحاديث في سوريا عامة، وفي الساحل على وجه الخصوص، بعد أحداث آذار الدامية، عن مستقبل البلاد والساحل تحديدًا، ومع انتشار الشائعات والتحليلات وربما المطالبات حول تقسيمه أو منحه حكمًا لامركزيًا ضمن حكومة تشبه “الفيدرالية”، وسيطرة حالة من التوتر على الشارع في اللاذقية وطرطوس وجبلة وبانياس، والمناطق الساحلية الأخرى، فإن الأهالي يعيشون حياة طبيعية إلى حد كبير لا ينغّصها إلّا بعض الانتهاكات والحوادث الأمنية التي يطالبون بضرورة إنهائها وإيجاد حلول سريعة لعملية حصر السلاح بيد “الدولة” وبشكلٍ عادل.
مرتبط
إقرأ المزيد


